كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد نقل السيوطي في الإتقان خبر مالك بن دينار بتمامه في فصل إعجاز القرآن.
وقال: قد مات جماعة عند سماع آيات منه أفردوا بالتصنيف، وقد ينشأ هنا سؤال كيف يكون هذا تأثير القرآن لو أنزل على الجبال ولم تتأثر به القلوب، وقد أجاب القرآن عن ذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]، وكذلك أصموا آذانهم {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وقرأ} [الكهف: 57] أي: بسب الإعراض وعدم التدبر والنسيان، ولذا قال تعالى عنهم: {...} [محمد: 24] فهذه أسباب عدم تأثر الكفار بالقرآن كما قال الشاعر:
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة ** فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر

بمفهوم المخالفة أن المؤمنين تخشع قلوبهم وتلين جولدهم، كما نص تعالى عليه بقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ} [الزمر: 23] وقوله تعالى: {لوْ أَنزَلْنَا} يدل على أنه لم ينزله على جبل ولم يتصدع منه.
وقد جاء في القرآن ما يدل عليه: لو أنزله، من ذلك قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: 72].
وهذا نص صريح لان الجبال أشفقت من حمل الأمانة وهي أمانة التكليف بمقتضى خطاب الله تعالى إياها.
فإذا كانت الجبال أشفقت لمجرد العرض عليها فكيف بها لو أنزل عليها وكلفت به.
ومنها: أن الله تعالى لما تجلى للجبل جعله دكًا وخر موسى صعقًا.
والقرآن كلام الله وصفة من صفاته، فهو شاهد وإن لم يكن نصًا.
ومنها النص على أن بعض الجبال التي هي الحجارة ليهبط من خشية الله لقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} [البقرة: 74].
وقد جاء في السنة إثبات ما يشبه لك في جبل أُحد، حينما صعد عليه النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهما فارتجف بهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «أثبت أحد فإن عليك نبي وصديق شهيدان»
وسواء كان ارتجافه إشفاقًا أو إجلالًا فدل هذا كله على أنه تعالى: وإن لم ينزل القرآن على جبل أنه لو أنزله عليه لرأيته كما قال تعالى: {خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ الله}.
وبهذا أيضًا يتضح أن جواب لو في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قرآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] لكان هذا القرآن أرجح من تقديرهم لكفرتم بالرحمن، لأن موضوع تسيير الجبال وخشوعها وتصديعها واحد، وهو الذي قدمه الشيخ رحمة الله تعالى عليه هناك، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
الأمثال: جمع مثل، وهو مأخوذ من المثل، وأصل المثل الانتصاب، والممثل بوزن اسم المفعول المصور على مثال غيره.
قال الراغب الأصفهاني، يقال: مثل الشيء إذا انتصب وتصور، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يمثل له الرجال فليتبوأ مقعده من النار» والتمثال: الشيء المصور، وتمثل كذا تصور قال تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17].
والمثل: عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره، نحو قولهم: الصيف ضيعت اللبن، فإن هذا القول يشبه قولك: أهملت وقت الإمكان أمرك، وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأمثال فقال: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].
وفي آية أخرى: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون} [العنكبوت: 43].
والمثال يقال على وجهين:
أحدهما: بمعنى المثل نحو مشبه ومشبه به، قال بعضهم: وقد يعبر بهما عن وصف الشيء، نحو قوله تعالى: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} [الرعد: 35].
والثاني: عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة.
وذلك ان الند يقال فيما يشارك ف الجوهر فقط.
والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط.
والمساوي يقال فيما يشارك في الكمية فقط.
والشكل يقال فيما يشارك في القدر والمساحة فقط، والمثل عام في جميع ذلك.
ولهذا لما أراد الله تعالى نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. إلخ. اهـ.
فقوله في تعريف المثل. إنه عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر، بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره.
فإنهم اتفقوا على أن القول لا يتغير بل يحكى على ما قيل أولًا كقولهم: الصيف ضيعت اللبن بكسر التاء خطابًا للمؤنثة.
فلو قيل لرجل أهمل وقت الإمكان ثم راح يطلبه بعد فواته، لقلت له: الصيف ضيعت اللبن بكسر التاء على الحكاية.
وهذا مما يسمى الاستعارة التمثيلية من أبلغ الأساليب، وأكثر ما في القرآن من أمثلة إنما هو من قبيل التشبيه التمثيلي، وهو تشبيه صورة بصورة، وهو من أوضح أساليب البيان.
وقد ساق الشيخ رحمة الله تعالى عليه، عددًا منها في الجزء الرابع عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]، ومن أهم أغراض هذا النوع من التشبيه هو بيان صورة بصورة وجعل الخفي جليًا، والمعنوي محسوسًا كقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحق والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الماء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد: 14].
فلو نظرت إلى مثل هذا الشخص على هذه الحالة، وفي تلك الصورة بكل أجزائها، وهو باسط يده مفرجة الأصابع إلى ماء بعيد عنه، وهو فاغر فاه ليشرب، لقلت وأي جدوى تعود عليه، ومتى يذوق الماء وهو على تلك الحالة، إنه يموت عطشًا ولا يذوق منه قطرة.
وكذلك حال من يدعو غير الله مع ما يدعوهم من دونه لا يحصل على طائل كقوله تعالى: {مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] فأي غناء لإنسان في بيت العنكبوت.
وكذلك أي غناء في ولاية غير الله فكذلك الحال هنا، أريد بالأمثال صور يصور لانتزاع الحكم من السامع بعد أن تصبح الصورة محسوسة ملموسة، وانظر قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] وكيف غطى وأخفى في هذا الأسلوب ما يستحي منه وأبرزه بلباسه في التشبيه بما يتقي به، ومدى مطابقة معنى اللباس لحاجة كل من الزوجين للآخر، وتلك في قوله تعالى: {وَتِلْكَ الأمثال} عائدة إلى الأمثلة المتقدمة قريبًا في عمل المنافقين مع اليهود ونتائج أعمالهم، وهكذا كل موالاة بين غير المسلمين وكل معاداة وانصراف عما جاء به سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
وكذلك في بيان مدى فعالية القرآن وتأثيره، لو أنزل على الجبال لخشعت وتصدعت، مما يستوجب التفكير فيه والأتعاظ به، ثم مثال الفريقين في قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، ونتيجة ذلك في الآخرة من عدم استواء الفريقين، فأصحاب نار وأصحاب جنة.
ولكأن الأمثال هنا والتنبيه عليها إشارة إلى أن أولئك بنسيانهم لله وإنسائه إياهم أنفسهم، صاروا بهذا النسيان أشد قساوة من الجبال، بل إن الجبال أسرع تأثرًا بالقرآن منهم لو كانوا يتفكرون.
وقد قال أبو السعود: إنه أراد توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وعدم تخشعه عند تلاوته وقلة تدبره فيه. اهـ.
وهكذا بهذه الأمثلة ينتزع الحكم من السامع على أولئك المعرضين الغافلين بأن قلوبهم قاسية كالجبال أو أشد قسوة كما قدمنا، بخلاف المؤمنين تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق كما قال تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ} [الزمر: 23].
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السلام الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}
جاءت في هذه الآيات الثلاث: ذكر كلمة التوحيد مرتين، كما ذكر فيها أيضًا تسبيح الله مرتين وذكر معهما العديد من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، كفانت بذلك مشتملة على ثلاث قضايا أهم قضايا الأديان كلها مع جميع الأمم ورسلهم، لأن دعوة الرسل كلها في توحيد الله تعالى في ذاته وأسمائه وصفاته وتنزيهه، والرد على مفتريات الأمم على الله تعالى:
فاليهود قالوا: عزير ابن الله.
والنصارى قالوا المسيح ابن الله.
والمشركون قالوا: {اتخذ الرحمن وَلَدًا} [مريم: 88]، {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثًا} [الزخرف: 19]، وقالوا: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِدًا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
فكلهم ادعى الشريك مع الله، وقالوا: ثالث ثلاثة وغير ذلك.
وكذلك في قضية التنزيه، فاليهود قالوا: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]، وقالوا: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64].
والمشركون قالوا: {وَمَا الرحمن أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]، ونسبوا الله مال لا يرضاه أحدهم لنفسه، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا، في الوقت الذي إذا بشر أحدهم بالأُنثى ظلَّ وجهُه مسودًّا وهو كظيم.
وهذا كما تراه أعظم افتراء على الله تعالى، وقد سجله عليهم القرآن في قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الذين قالواْ اتخذ الله وَلَدًا مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقولونَ إِلاَّ كَذِبًا} [الكهف: 4- 5] وكما قال تعالى: {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقولونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات: 151- 152]، وقال مبينًا جرم مقالتهم، {وَقالواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا أَن دَعَوْا للرحمن وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 88- 92].
فكانت تلك الآيات الثلاث علاجًا في الجملة لتلك القضايا الثلاث، توحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتنزيه الله سبحانه وتعالى مع إقامة الأدلة عليها.
وقد اجتمعت معًا لأنه لا يتم أحداه إلا بالآخرين، ليتم الكمال لله تعالى.
قال أبو السعود: إن الكمالات كلها مع كثرتها وتشعبها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم. اهـ.
وهذا كله متوفر في هذا السياق، وقد بدأ بكلمة التويحد، لأنها الأصل، لأن من آمن بالله وحده آمن بكل ما جاء عن الله، وآمن بالله على ما هو له أهل، ونزهه عما ليس له بأهل قال تعالى: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ} [الحشر: 22] ثم أعقبه بالدليل على إفراده تعالى باألوهية بما لا يشاركه غيره فيه بقوله تعالى: {عَالِمُ الغيب والشهادة} [الحشر: 22].